كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يزول له الخوف من الميل، {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}.
فإنه لا يجب فيهن العدل.
وظن قوم أن المراد به العطف على قوله: {فَانْكِحُوا} وتقديره:
فانكحوا ما طاب لكم من النساء أو ما ملكت أيمانكم، وهذا يدل عند هذا القائل على أنه يجوز التزويج بأربع إماء، كما جاز التزويج بأربع حرائر.
وهذا فيه نظر، لأن العطف رجع إلى أقرب مذكور، والمذكور آخرا قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}.
وذلك يقتضي أن يكون الذي يعدل اليه خيفة الحيفة وترك العدل، لا يجب فيه مراعاة العدل، وذلك ملك اليمين.
فإن قيل: الضمير المتقدم هو النكاح، وقوله: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}، لا يستقل بنفسه، فلابد من عطف على ضمير متقدم، ولا متقدم إلا النكاح.
وإذا قلتم المراد به: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} لم يستقم إثبات ضمير الفعل المتقدم في هذا المحل، فإنه لا نكاح في ذلك اليمين.
والجواب عنه: أن العطف على ما ذكره أخيرا من تحريم إظهار الميل، وأنه إذا كان كذلك يخلص بواحدة أو بملك يمين، ويدل على ذلك أنه لو رجع ذلك إلى نكاح الإماء كان تقدير الكلام: فانكحوا ما طاب لكم من النساء، أو انكحوا ما ملكت أيمانكم، وذلك يقتضي الجمع بينهما، والجمع ممتنع محرم جميعا.
وليس يمكن أن يقال: إنه قال: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ}، ولم تدخل فيه الإماء، ثم قال: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} على البدل من النساء، فإن ذلك مكروه بالإجماع، وقد بين اللّه خلافه في موضع آخر فقال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}.
وأبان اشتراط خوف العنت، فيكون مبينا حكم نكاح الأمة هاهنا، وذلك بعيد من القول.
والدليل على ذلك أيضا: أن ظاهر قوله تعالى: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}. إضافة جمع إلى جمع، وذلك يقتضي توزيع الآحاد على الآحاد، فتقدير قوله: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} أي ما ملكت يمين كل واحد منكم، ولا يتصور ذلك في ملك النكاح، فدل على أن الضمير هو الوطء لا العقد.
نعم ورد مثله في موضع آخر وهو قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}.
ولكن خالفنا ظاهر إضافة الجمع إلى الجمع وقلنا: المراد به نكاح ملك يمين الغير، ودل عليه قوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}.
ولما بين نكاحهن قال: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.
وها هنا قال: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} ثم قال: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً}، ولم يتعرض لصداق الأمة، ولو جرى ذكر نكاحها لذكر الصداق، كما ذكر حق النساء.
قوله تعالى: {ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا} الآية [3]. أي تميلوا.
وقد قيل معناه ألا تميلوا، وأصل العول مجاوزة الحد، فالعول في الفريضة مجاوزته لحد السهام المسماة، وعال إذا حاد، وعال يعيل إذا افتقر، ويقال أيضا: إذا تبختر.
قال الشافعي رضي اللّه عنه:
وهذا يدل أن على الرجل مئونة امرأته، فقيل له: معنى قوله: أن لا تعولوا- أي لا تميلوا- وهو الميل الذي نهى اللّه عنه وأمر بضده في حق النساء.
والشافعي يقول: إذا كثر عيال الرجل يقال هو معيل، وقد عال يعول، ويقال: هو يعول جمعا، فقيل له: في الآية ذكر الواحدة، وملك اليمين، والنفقة واجبة في جميع ذلك؟
فقال: نفقة ملك اليمين هو متمكن من دفعها بالبيع والتزويج من غير خسران، ويصعب عليه مفارقة أم أولاده.
فقيل له: فقد يتزوج الرجل بالمرأة الواحدة وعليه نفقتها؟
قال: هو أدنى ألا يقال فيه كثر العيال.
والشافعي رضي اللّه عنه حجة في اللغة.
وقد روي عن زيد بن أسلم في قول اللّه تعالى: {ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا} قال: يقول: ذلك أدنى ألا يكثر من تعولون.
وقال أبو زيد فيه: ذلك أقل لنفقتك، للواحدة أقل من ثنتين وثلاث وأربع، وجاريتك أهون عليك من العيال.
ويدل على ما قاله الشافعي: أنه لو كان المراد به الميل، فإذا كثر عدد النساء أم قل فلا يختلف الميل، وإنما يختلف القيام بحقوقهن، فإنهن إذا كثرن تكاثرت الحقوق عليه.
أما إظهار ميل الطبع ونفاره، فلا يختلف بكثرة العدد وقلته.
وهذا يدل على أن المراد بقوله: {ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا} ما قاله.
وقد تجاوز بعض من صنف أحكام القرآن حد الإنصاف عند حكاية كلام الشافعي، وكفاه جهله بقدر الشافعي جوابا له.
قوله تعالى: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً} الآية [4]:
والنحلة هاهنا الفريضة، وهو مثل ما ذكره اللّه تعالى عقيب ذكر المواريث {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}.
والخطاب يدل على الأزواج، ونهيهم عن منع الصداق عنهم، وعلى الولي الذي يأخذ المهر ولا يعطيها، مع أن ما تقدم من قوله: {فَانْكِحُوا} يدل على أنه خطاب للأزواج.
وإذا كان خطابا للأزواج فيجوز أن يقال سمي نحلة، والنحلة في الأصل العطية، وإنما سماه عطية، لأن الزوج لا يملك من بدله شيئا، فكان ذلك ترغيبا في إبقاء صداقها وسياقة مهرها إليها على قدر مئونة، ظانا أن ذلك منه نحلة، ولا تعطوهنّ المهور كارهين، ظانين أن ذلك غرامة، ولكن لتكون أنفسهم طيبة به.
قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [4]:
وذلك يدل على أن للمرأة هبة الصداق من زوجها، بكرا كانت أو ثيبا، خلافا لمالك، فإنه منع من هبة البكر الصداق من زوجها، وجعل ذلك للولي، مع أن الملك لها، وذلك في غاية البعد.
قوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}، ليس المقصود صورة الأكل، وإنما المراد به الاستباحة بأي طريق كان، وهو المعنى بقوله تعالى في الآية التي بعدها: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْمًا}.
وليس المراد نفس الأكل، إلا أن الأكل لما كان أو في أنواع التمتع بالمال، عبر عن التصرفات بالأكل، فهذا ما سبق إلى الفهم، وعلم أن الأكل بصورته ليس معنيا.
ومثله قوله تعالى: {إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}.
يعلم أن صورة البيع ليست مقصودة، وإنما المقصود ما يشغله عن ذكر اللّه تعالى، مثل النكاح وغيره، ولكن ذكر البيع لأنه أهم ما يشتغل به عن ذكر اللّه تعالى، فيكون معنى سابقا إلى الفهم، ونظائره كثيرة في الكتاب والسنة.
وقوله تعالى: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً} مع قوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ}، يدل على أنه أراد: فإن طبن قبل أن تؤتوهن صدقاتهن نحلة، وذلك هو الإبراء، فدل ذلك على أن من وهب لإنسان دينا له عليه أن البراءة قد وقعت بنفس الهبة.
وقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ}، يدل على عموم الحكم في البكر والثيب.
وقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ} الآية [5]:
قال ابن عباس: الآية مجراة على حقيقتها، والمراد منها النهي عن دفع المال إلى الصبيان والنسوان، وتسليطهم على مال نفسه حتى يستنفذوه في أسرع مدة فيبقون عالة، وهو يبقى عائلا مستضعفا.
وقال ابن عباس: السفيه من ولدك وعيالك.
وقال: المرأة من أسفه السفهاء.
وفيه تنبيه عن النهي عن تضييع الأموال.
نعم الهبة على الأولاد والنسوان جائزة، ولكن لا بأن يجعل المال في أيديهم، ولكن بأن ينصب فيما عليهم في الموهوب منهم، وقد نهى اللّه تعالى عن التبذير، ومن التبذير تسليم المال إلى من ينفقه في غير وجهه.
والأولى أن يسلم ذلك إلى نائبه، أو يكون في يده، وهو وليه.
وإنما حكمهم على هذا التأويل قوله تعالى: {أَمْوالَكُمُ} وقوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيها} أي منها.
وقد قيل: معناه أموالهم، وفيه تنبيه على دفع مال السفيه اليه، فمعناه لا تؤتوهم أموالهم، وإنما أضافها إليهم، كما قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} يعني بعضكم بعضا.
وقال: {فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ}.
يريد من يكون فيها، وذكروا أن هذا التأويل أولى، فإن السفه صفة ذم، وهذا يعترض عليه، فإن السفه في الأصل الخفة، وليس ذلك صفة ذم ولا مفيدا لعصيان، والمعنيان مختلفان.
قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ} الآية [6].
واعلم أن كثيرا من العلماء جوزوا إذن الولي للصبي في التجارات وتسليم المال اليه، حتى يتصرف وتبدو بياعاته وتصرفاته، وليس في العلماء من يقول إنه إذا اختبر الصبي فوجد رشيدا ارتفع عنه الولاية، وأنه يجب دفع ماله اليه، وإطلاق يده في التصرف، وذلك يدل على أن الابتلاء في الصبي ليس يفيد العلم المعتبر برشده، فكذلك قال اللّه تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا}.
آنستم: أي علمتم وقيل: رأيتم، وأصل الإيناس: الأبصار، ومنه قوله تعالى: {آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ نارًا}.
رشدا: الرشد الاهتداء الى وجوه الخير، والمراد به هنا الاهتداء الى حفظ الأموال.
إسرافا: الإسراف مجاوزة الحد والإفراط في الشيء، والسرف: التبذير.
بدارا: معناه مبادرة أي مسارعة، والمراد أن يسارع في أكل مال اليتيم خشية أن يكبر فيطالبه به. [.....].
فدل ذلك على أن الابتلاء قبل البلوغ لا بدفع المال اليه، ولا بأن يبقى بعقله ورأيه، حتى يزعم بكونه رشيدا، فإنه لو كان كذلك ما توقف وجوب دفع المال على بلوغ النكاح، بل دل على أن الابتلاء قبل البلوغ في أمر الدين والدنيا، بأن يربيه على الخيرات والطاعات، ويندبه إلى المراشد وتأمل التصرفات والتجارات، حتى يكون نشوّه على الخيرات، فإذا بلغ النكاح نفعه ما تقدم من التدريب، ويحصل به إيناس الرشد، وهو إحساس الرشد، مثل قوله تعالى: {إِنِّي آنَسْتُ نارًا}.
يعني أحسستها وأبصرتها، وذلك يدل على أن الذي يجري في الصبي غير موثوق به شرعا، إنما هو توطئة وتمهيد لزمان البلوغ الذي يوثق فيه بإيناس الرشد، فهذا تحقيق لمذهب الشافعي رضي اللّه عنه، ويرد على من خالفه، ثم قال الشافعي:
ولما قال تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا}، وهو يقتضي صلاح الدين والدنيا، والفاسق غير رشيد ولا مأمون، وهذا لأن التبذير يتولد من غلبة الهوى، والهوى منشأ الفسق، ولا يؤمن من الفاسق صرف المال إلى المحصور المنكور، وذلك تبذير وإن قل، فإنه لا يكتسب به محمدة في الدنيا والآخرة، والكثير في الطاعات ليس بتبذير، على ما عرف من أقوال السلف رضوان اللّه عليهم أجمعين، فهذا معنى الآية.
قوله تعالى: {وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [6]:
توهم متوهمون من السلف بحكم هذه الآية، أن للوصي أن يأكل من مال الصبي قدرا لا ينتهي إلى حد السرف، وذلك خلافا ما أمر اللّه تعالى به في قوله: {لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ}.